حزب البعث- من حارات دمشق إلى مآسي العراق وسوريا ولبنان
المؤلف: محمد الساعد10.29.2025

في أزقة دمشق القديمة، وتحديدًا في عام 1946 ميلاديًا، أقدمت نخبة من القوميين العرب، وعلى رأسهم الأديب المرموق ميشيل عفلق، والسياسي المخضرم صلاح الدين البيطار، على تأسيس ما عُرف بـ "حزب البعث العربي". هذا الحزب، الذي سيترك بصمة عميقة ومثيرة للجدل في المنطقة المحيطة به على مدى العقود الأربعة والسبعين اللاحقة، ارتبط اسمه بشكل وثيق بالمآسي التي ألمت بالعراق وسوريا ولبنان.
إن تاريخ سقوط حزب البعث السوري في الثامن من ديسمبر عام 2024 ميلاديًا، ليس مجرد يوم عادي في سجل حزب حكم سوريا لأكثر من نصف قرن، بل هو تاريخ يمثل نقطة تحول لمنطقة بأسرها، تمتد من ضفاف الفرات شرقًا إلى شواطئ بيروت غربًا، منطقة اكتوت بنيران الأحداث الجسام والآلام المريرة. ولا أبالغ إذا قلت إن أدب السجون والمعاناة المتأصلة سيعود للظهور مجددًا، مدفوعًا بأقلام آلاف السوريين الذين سيسجلون فصولًا من العذاب عاشوها تحت نير سلطة الحزب لعقود طوال.
لقد كان لحزب البعث تأثير بالغ في الحياة السياسية العربية في كل من الشام والعراق، وذلك لامتداده الذي تجاوز سبعة عقود، بينما تراجع التيار الناصري، المنافس اللدود له، بسرعة ملحوظة في أعقاب هزيمة عام 1967. استمر البعث صامدًا بفضل هيكله التنظيمي المتين وعقيدته الراسخة في أذهان أتباعه، بالإضافة إلى قسوته المفرطة التي طبعت أسلوبه في التعامل مع معارضيه. لقد مارس "البعث" كل أنواع البطش، من الحروب المدمرة إلى الاغتيالات الغادرة، ومن السجون المكتظة إلى تدمير المدن بمن فيها، سعيًا منه للبقاء جاثمًا على السلطة. ودفعت العراق وسوريا ولبنان وفلسطين أثمانًا باهظة بسبب هيمنة الحزب ونفوذه المتشعب بفروعه المختلفة.
لعب حزب البعث دورًا محوريًا ومثيرًا للجدل في ثلاث دول عربية رئيسية: العراق وسوريا ولبنان. فقد بسط الفرع السوري سيطرته الكاملة على المشهد السياسي والأمني والاقتصادي في كل من سوريا ولبنان. وعلى الرغم من أن حزب البعث العراقي نشأ في وقت لاحق مقارنة بشقيقه السوري، إلا أنه سقط مبكرًا في عام 2003 ميلاديًا، نتيجة لغزو الكويت عام 1990 ميلاديًا، الأمر الذي أدى إلى احتلال بغداد على يد القوات الأمريكية بعد مرور ثلاثة عشر عامًا.
لم يكن تأسيس "حزب البعث" الداعي إلى القومية العربية أمرًا مفاجئًا، فقد سبقته العديد من الجمعيات القومية العربية التي تصدت للقومية التركية الصاعدة بقوة في الأقطار العربية التي كانت ترزح آنذاك تحت وطأة الاحتلال العثماني، والتي كانت تحمل في طياتها احتقارًا للقوميات الأخرى، وعلى رأسها القومية العربية.
لقد نما حزب البعث وترعرع على استغلال المشاعر القومية العربية، وسرق تلك الأحاسيس التي اشتعلت جذوتها ضد الاستعمار، وأسس حزبًا ثوريًا رعى مصالح فئوية ضيقة، وتسبب في الكثير من المآسي في الدولتين الرئيسيتين اللتين حكمهما.
تأسست الجمعية القحطانية ذات التوجه العربي في عام 1909 ميلاديًا في إسطنبول، على يد طلاب سوريين قبل سنوات قليلة من انهيار الدولة العثمانية، ومثلت الجمعية حلمًا بالاستقلال عن السلطنة. لم تتوقف الحركات العربية المناهضة للقومية التركية، ففي عام 1911 ميلاديًا، قام مجموعة من الضباط العرب الملتحقين بالجيش العثماني بتأسيس "جمعية العربية الفتاة" ردًا على صعود جمعية "تركيا الفتاة" التي اتخذت من القومية منهجًا وشعارًا يعلي من شأن التتريك ويقدم مصالح قوميتهم على مصالح القوميات الأخرى.
ووفقًا لمؤرخين تتبعوا مسيرة حزب البعث، ظهر الحزب للمرة الأولى تحت اسم حركة البعث العربي، وبعد دمج الحزب العربي الاشتراكي في حركة البعث العربي، تحول اسمه إلى "حزب البعث العربي الاشتراكي" في عام 1952 ميلاديًا. هذا الحزب الذي تسلل إلى مفاصل العمل السياسي العربي، لم يتمكن من تولي السلطة إلا في سوريا والعراق. وقد مر الحزب بتحولات فكرية عميقة، يمكن تصنيفها في ثلاث مراحل: البعث الكلاسيكي والبعث الانتقالي والبعث الجديد. وانخرط البعث في الحياة السياسية والاجتماعية والعمالية السورية، وأصبح محركًا مهمًا للشارع السوري، مستغلًا المشاعر القومية العربية ومؤججًا للاحتجاجات.
امتد حزب البعث إلى خارج الأراضي السورية، وتحديدًا إلى الجارة "العراق" من خلال مجموعات من الطلاب والمعلمين في البلدين، حتى أُعلن عن تأسيسه رسميًا في بغداد عام 1952 ميلاديًا، ليكون النواة للحزب الذي سيقفز على السلطة فيما بعد ويشكل مع حزب البعث السوري قيادتين قطريتين متنازعتين ومتناحرتين.
بقي فرعا البعث في سوريا والعراق منخرطين داخل مفاصل الدولتين حتى استطاعا القفز على السلطة في وقتين متقاربين؛ في سوريا عام 1966 ميلاديًا بانقلاب قاده صلاح جديد، وحافظ الأسد، وفي العراق عام 1968 ميلاديًا على يد أحمد حسن البكر ومساعده صدام حسين.
لم يتمكن فرعا الحزب البعثي من الاتحاد إطلاقًا، وانخرطا في صراعات وعداوات متبادلة، وتبادلا الاتهامات بالخيانة، ودعم كل منهما ما يضعف الآخر. لقد كان شعارهما الشهير "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة" مجرد شعارات جوفاء اخترقا من خلالها بلديهما حتى وصلا إلى السلطة، وسوقوها للجماهير المغيبة في العديد من البلدان العربية باسم العروبة تارة وباسم فلسطين تارة أخرى، ومع ذلك فشلا في التوحد رغم انطلاقهما من منبع فكري وعقائدي واحد.
إن تاريخ سقوط حزب البعث السوري في الثامن من ديسمبر عام 2024 ميلاديًا، ليس مجرد يوم عادي في سجل حزب حكم سوريا لأكثر من نصف قرن، بل هو تاريخ يمثل نقطة تحول لمنطقة بأسرها، تمتد من ضفاف الفرات شرقًا إلى شواطئ بيروت غربًا، منطقة اكتوت بنيران الأحداث الجسام والآلام المريرة. ولا أبالغ إذا قلت إن أدب السجون والمعاناة المتأصلة سيعود للظهور مجددًا، مدفوعًا بأقلام آلاف السوريين الذين سيسجلون فصولًا من العذاب عاشوها تحت نير سلطة الحزب لعقود طوال.
لقد كان لحزب البعث تأثير بالغ في الحياة السياسية العربية في كل من الشام والعراق، وذلك لامتداده الذي تجاوز سبعة عقود، بينما تراجع التيار الناصري، المنافس اللدود له، بسرعة ملحوظة في أعقاب هزيمة عام 1967. استمر البعث صامدًا بفضل هيكله التنظيمي المتين وعقيدته الراسخة في أذهان أتباعه، بالإضافة إلى قسوته المفرطة التي طبعت أسلوبه في التعامل مع معارضيه. لقد مارس "البعث" كل أنواع البطش، من الحروب المدمرة إلى الاغتيالات الغادرة، ومن السجون المكتظة إلى تدمير المدن بمن فيها، سعيًا منه للبقاء جاثمًا على السلطة. ودفعت العراق وسوريا ولبنان وفلسطين أثمانًا باهظة بسبب هيمنة الحزب ونفوذه المتشعب بفروعه المختلفة.
لعب حزب البعث دورًا محوريًا ومثيرًا للجدل في ثلاث دول عربية رئيسية: العراق وسوريا ولبنان. فقد بسط الفرع السوري سيطرته الكاملة على المشهد السياسي والأمني والاقتصادي في كل من سوريا ولبنان. وعلى الرغم من أن حزب البعث العراقي نشأ في وقت لاحق مقارنة بشقيقه السوري، إلا أنه سقط مبكرًا في عام 2003 ميلاديًا، نتيجة لغزو الكويت عام 1990 ميلاديًا، الأمر الذي أدى إلى احتلال بغداد على يد القوات الأمريكية بعد مرور ثلاثة عشر عامًا.
لم يكن تأسيس "حزب البعث" الداعي إلى القومية العربية أمرًا مفاجئًا، فقد سبقته العديد من الجمعيات القومية العربية التي تصدت للقومية التركية الصاعدة بقوة في الأقطار العربية التي كانت ترزح آنذاك تحت وطأة الاحتلال العثماني، والتي كانت تحمل في طياتها احتقارًا للقوميات الأخرى، وعلى رأسها القومية العربية.
لقد نما حزب البعث وترعرع على استغلال المشاعر القومية العربية، وسرق تلك الأحاسيس التي اشتعلت جذوتها ضد الاستعمار، وأسس حزبًا ثوريًا رعى مصالح فئوية ضيقة، وتسبب في الكثير من المآسي في الدولتين الرئيسيتين اللتين حكمهما.
تأسست الجمعية القحطانية ذات التوجه العربي في عام 1909 ميلاديًا في إسطنبول، على يد طلاب سوريين قبل سنوات قليلة من انهيار الدولة العثمانية، ومثلت الجمعية حلمًا بالاستقلال عن السلطنة. لم تتوقف الحركات العربية المناهضة للقومية التركية، ففي عام 1911 ميلاديًا، قام مجموعة من الضباط العرب الملتحقين بالجيش العثماني بتأسيس "جمعية العربية الفتاة" ردًا على صعود جمعية "تركيا الفتاة" التي اتخذت من القومية منهجًا وشعارًا يعلي من شأن التتريك ويقدم مصالح قوميتهم على مصالح القوميات الأخرى.
ووفقًا لمؤرخين تتبعوا مسيرة حزب البعث، ظهر الحزب للمرة الأولى تحت اسم حركة البعث العربي، وبعد دمج الحزب العربي الاشتراكي في حركة البعث العربي، تحول اسمه إلى "حزب البعث العربي الاشتراكي" في عام 1952 ميلاديًا. هذا الحزب الذي تسلل إلى مفاصل العمل السياسي العربي، لم يتمكن من تولي السلطة إلا في سوريا والعراق. وقد مر الحزب بتحولات فكرية عميقة، يمكن تصنيفها في ثلاث مراحل: البعث الكلاسيكي والبعث الانتقالي والبعث الجديد. وانخرط البعث في الحياة السياسية والاجتماعية والعمالية السورية، وأصبح محركًا مهمًا للشارع السوري، مستغلًا المشاعر القومية العربية ومؤججًا للاحتجاجات.
امتد حزب البعث إلى خارج الأراضي السورية، وتحديدًا إلى الجارة "العراق" من خلال مجموعات من الطلاب والمعلمين في البلدين، حتى أُعلن عن تأسيسه رسميًا في بغداد عام 1952 ميلاديًا، ليكون النواة للحزب الذي سيقفز على السلطة فيما بعد ويشكل مع حزب البعث السوري قيادتين قطريتين متنازعتين ومتناحرتين.
بقي فرعا البعث في سوريا والعراق منخرطين داخل مفاصل الدولتين حتى استطاعا القفز على السلطة في وقتين متقاربين؛ في سوريا عام 1966 ميلاديًا بانقلاب قاده صلاح جديد، وحافظ الأسد، وفي العراق عام 1968 ميلاديًا على يد أحمد حسن البكر ومساعده صدام حسين.
لم يتمكن فرعا الحزب البعثي من الاتحاد إطلاقًا، وانخرطا في صراعات وعداوات متبادلة، وتبادلا الاتهامات بالخيانة، ودعم كل منهما ما يضعف الآخر. لقد كان شعارهما الشهير "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة" مجرد شعارات جوفاء اخترقا من خلالها بلديهما حتى وصلا إلى السلطة، وسوقوها للجماهير المغيبة في العديد من البلدان العربية باسم العروبة تارة وباسم فلسطين تارة أخرى، ومع ذلك فشلا في التوحد رغم انطلاقهما من منبع فكري وعقائدي واحد.
